سورة يس - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}
{مُّظْلِمُونَ والشمس} عطف على {اليل} [ييس: 37] أي وآية لهم الشمس.
وقوله تعالى: {تَجْرِى} إلخ استئناف لبيان كونها آية، وقيل: {الشمس} مبتدأ وما بعده خبر والجملة عطف على {الليل نسلخ} [يس: 37] وقيل غير ذلك فلا تغفل، والجري المر السريع، وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه والمعنى تسير سريعًا {لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} لحد معين تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة شبه ستقر المسافر إذا قطع مسيره من حيث أن في كل انتهاء إلى محل معين وإن كان للمسافر قرار دونها، وروى هذا عن الكلبي واختاره ابن قتيبة، والمستقر عليه اسم مكان واللام عنى إلى وقرئ بها بدل اللام، وجوز أن تكون تعليلية أو لمنتهى لها من المشارق اليومية والمغارب لأنها تتقصاها مشرقًا مشرقًا ومغربًا مغربًا حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها لأنها لا تعدوه.
وروى هذا عن الحسن وهو متفق في أن المستقر اسم مكان واللام على ما سمعت، ومختلف باعتبار أن الأول من استقرار المسافر تشبيهًا لانتهاء الدورة بانتهاء السفرة وهذا باعتبار مقنطرات الارتفاع وبلوغ أقصاها ومقنطرات الانخفاض كذلك والاستقرار باعتبار عدم التجاوز عن الأول في استقصاء المشارق وعن الثاني في استقصاء المغارب أو لحد لها من مسيرها كل يوم في رأي عيوننا وهو المغرب، والمستقر عليه اسم مكان أيضًا واللام كما سمعت أو لكبد السماء ودائرة نصف النهار فالمستقر واللام على نظير ما تقدم.
وكون ذلك محل قرارها إما مجاز عن الحركة البطيئة أو هو باعتبار ما يتراىء؛ قال ذو الرمة يصف فرسه وجريه في الظهيرة وشدة الحر:
معروريا رمض الرضراض تركضه *** والشمس حيرى لها بالجو تدويم
أو لاستقرار لها ومكث في كل برج من البروج الإثني عشر على نهج مخصوص فالمستقر مصدر ميمي واللام داخلة على الغاية أو الحامل، وقيل: تجري لبيتها وهو برج الأسد، واستقرارها عبارة عن حسن حالها فيه، وهذا غير مقبول إلا عند أهل الأحكام ولا يخفى حكمهم على محققي الإسلام، وقال قتادة. ومقاتل المعنى تجري إلى وقت لها لا تتعداه، قال الواحدي: وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج كما قال النووي: في «شرح صحيح مسلم»، ومستقر عليه اسم زمان وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت الله تعالى ورسوله أعلم قال: تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله عز وجل: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} وفي رواية أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها وتحت العرش فتخر ساجدة الحديث وفي ذلك عدة رواسات وقد روى مختصرًا جدًا.
وأخرج أحمد. والبخاري. ومسلم. وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ وابن مردويه. والبيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} قال مستقرها تحت العرش فالمستقر اسم مكان والظاهر أن للشمس فيه قرارًا حقيقة، قال النووي: قال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي: وعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع، ثم قال النووي: وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها.
وذكر ابن حجر الهيتمي في «فتيه الحديثية» أن يسجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها وحكى فيها عن بعضهم أنها تطلع من حيث جئت فتنزل من سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر، وفيها أيضًا أخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا غربت دخلت نهرًا تحت العرش فتسبح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن الخروج فيقول سبحانه لم فتقول أنى إذا خرجت عبدت من دونك، والسجود تحت العرش قد جاء أيضًا من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار عجيبة منها أن الشمس عليها سبعون ألف كلاب وكل كلاب يجره سبعون ألف ملك من مشرقها إلى مغربها ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش ثم يسألون ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز وجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها؟ فيأتيهم النداء بما يريد جل شأنه ثم يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله.
وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل والصحيح من الإخبار قليل، وليس لي على صحة إخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية تعويل نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته وماذا يقال في أبي ذر وصدق لهجته، والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت العرش سواء قيل إنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد أن قيل إنها تستقر وتسجد تحته من غير طلوع فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالي وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار على ما فصل في موضعه، والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها وإلا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره، وأيضًا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش بل كون الأمر ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلًا وكذا كونها تحت العرش دائمًا عنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته وقد سألت كثيرًا من أجلة المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان فلم أوفق لأن أفوز منهم بما يروي الغليل ويشفي العليل، والذي يخطر بالبال في حل ذلك الإشكال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال أن الشمس وكذا سائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى الآتي: {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] حيث جيء بالفعل مسندًا إلى ضمير جمع العقلاء وقوله تعالى: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] لنحو ما ذكر يدل وعليه ظاهر ما روى عن أبي ذر من أنها تسجد وتستأذن فإن المتبادر من الاستئذان ما يكون بلسان القال دون لسان الحال.
وخلق الله تعالى الإدراك والتمييز فيها حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها مما لا حاجة إلى التزامه بل هو بعيد غاية البعد والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصى كثرة وبعض يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص وبعضها يدل على ثبوته لها باعتبار دخولها في العموم أو بالمقايسة إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة جدًا، والحكماء أثبتوا النفس للفلك وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضًا وقالوا: كل ما في العالم العلوي من الكواكب والأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حي ناطق والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ عن الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما يتمثل جبريل عليه السلام ويظهر بصورة دحية أو بصورة بعض الأعراب كما جاء في «صحيح الأخبار» حيث يشاء الله عز وجل مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع وما ذاك إلا لقوة تجرد أنفسهم وغاية تقدسها فتمثل وتظهر في موضع وبدنها الأصلي في موضع آخر.
لا تقل دارها بشرقي نجد *** كل نجد للعامرية دار
وهذا أمر مقرر عند السادة الصوفية مشهور فيما بينهم وهو غير طي المسافة وإنكار من ينكر كلًا منهما عليهم مكابرة لا تصدر إلا من جاهل أو معاند، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة أي كابن مقاتل حيث حكم بالكفر على معتقد ما روى عن إبراهيم بن أدهم قدس سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ورؤي ذلك اليوم كة، ومبناه زعم أن ذلك من جنس المعجزات الكبار وهو مما لا يثبت كرامة لولي وأنت تعلم أن المعتمد عندنا جواز ثبوت الكرامة للولي مطلقًا إلا فيما يثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل إحدى سور القرآن، وقد أثبت غير واحد تمثل النفس وتطورها لنبينا صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة وادعى أنه عليه الصلاة والسلام قد يرى في عدة مواضع في وقت واحد مع كونه في قبره الشريف يصلي، وقد تقدم الكلام مستوفي في ذلك، وصح أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ورآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة، وكونه عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يقله أحد جزمًا والقول به احتمال بعيد، وقد رأى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به جماعة من الأنبياء غير موسى عليه السلام في السموات مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا منها إليها على قياس ما سمعت آنفًا، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس الواحدة أكثر من بدن واحد بل هو أمر وراءه كما لا يخفى على من نور الله تعالى تعالى بصيرته فيمكن أن يقال: إن للشمس نفسًا مثل تلك الأنفس القدسية وأنها تنسلخ عن الجرم المشاهد المعروف مع بقاء نوع من التعلق لها به فتعرج إلى العرش فتسجد تحته بلا واسطة وتستقر هناك وتستأذن ولا ينافي ذلك سير هذا الجرم المعروف وعدم سكونه حسا يدعيه أهل الهيئة وغيرهم ويكون ذلك إذا غربت ولجاوزت الأفق الحقيقي وانقطعت رؤية سكان المعمور من الأرض إياها ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه لأن ما ذكرنا من كون السجود والسكون باعتبار النفس المنسلخة المتمثلة بما شاء الله تعالى لا ينافي سير الجرم المعروف بل لو كانا نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضًا، ويجوز أن يقال سجودها بعد غروبها عن أفق المدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر لما سمعت إلا أن الذي يغلب على الظن ما ذكر أولًا، وعلى هذا الطرز يخرج ما يحكي أن الكعبة كانت تزور واحدًا من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقة غير ما يعرفه العامة وهي باعتبار تلك الحقيقة تزور واحدًا من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقة غير ما يعرفه العامة وهي باعتبار تلك الحقيقة تزول والناس يشاهدونها في مكانها أحجارًا مبنية.
وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات كلامًا طويلًا ظاهرًا في أن لها حقيقة غير ما يعرفه العامة وفيه أنه كان بينه وبينها زمان مجاورته مراسلات وتوسلات ومعاتبة دائمة وأنه دون بعض ذلك في جزء سماه تاج الوسائل ومنهاج الرسائل وقد سأل نجم الدين عمر النسفي مفتي الإنس والجن عما يحكي أن الكعبة كانت تزور إلخ هل يجوز القول به فقال: نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة وارتضاه العلامة السعد وغيره لكن لم أرض من خرج زيارتها على هذا الطرز، وظاهر كلام بعضهم أن ذلك بذهاب الجسم المشاهد منها إلى المزور وانتقاله من مكانه، ففي عدة الفتاوي والولوالجية وغيرهما لو ذهبت الكعبة لزيارة بعض الأولياء فالصلاة إلى هوائها، ويمكن أن يكون أريد به غير ما يحكى فإنه والله تعالى أعلم لم يكن بانتقال الجسم المشاهد ثم الجمع بين الحديث في الشمس وبين ما يقتضيه الحس وكلام أهل الهيئة بهذا الوجه لم أره لأحد بيد أني رأيت في بعض مؤلفات عصرينا الرشتي رئيس الطائفة الإمامية الكشفية أن سجدة الشمس عند غروبها تحت العرش عبارة عن رفع الآنية ونزع جلباب الماهية وهو عندي نوع من الرطانة لا يفهمه من لا خبرة له باصطلاحاته ولو كان ذا فطانة: وقال في موضع آخر بعد أن ذكر حديث الكلاليب السابق إن ذلك لا ينافي كلام أهل الهيئة ولا بقدر سم الخياط ولم يبين وجه عدم المنافاة مع أنها أظهر من الشمس معتذرًا بأن الكلام فيه طويل ولا أظنه لو كان آتيًا به إلا من ذل القبيل، وهذا ما عندي فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقرأ عبد الله. وابن عباس. وزين العابدين. وابنه الباقر. وعكرمة. وعطاء بن أبي رباح {لا مُّسْتَقِرٌّ لَهَا} بلا نافية للجنس وبناء {مُّسْتَقِرٌّ} على الفتح فتقتضي انتفاء كل مستقر حقيقي لجرمها المشاهد وذلك في الدنيا أي هي تجري في الدنيا دائمًا لا تستقر. وقرأ ابن أبي عبلة بلا أيضًا إلا أنه رفع {مُّسْتَقِرٌّ} ونونه على إعمالها إعمال ليس كما في قوله:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا *** ولا وزر مما قضى الله واقيًا
{ذلك} إشارة إلى الجري المفهوم من {تَجْرِى} أي ذلك الجري البديع الشأن المنطوي على الحكم الرائقة التي تحار في فهمها العقول والأذهان {تَقْدِيرُ العزيز} الغالب بقدرتها على كل مقدور {العليم} المحيط علمه بكل معلوم، وذكر بعضهم في حكمة جريها حتى تسجد كل ليلة تحت العرش ما يقتضيه الخبر السابق تجدد اكتساب النور من العرش ويترتب عليه في عال الطبيعة والعناصر ما يترتب وباكتسابها النور من العرش صرح به غير واحد، ومن العجيب ما ذكره الرشتي أنها تستمد النور من ظاهر العرش وتمد فلك القمر ومن باطن العرش وتمد فلك زحل وتستمد من ظاهر الكرسي وتمد فلك عطارد ومن باطنه وتمد فلك المشتري وتستمد من ظاهر تقاطع نقطتي المنطقتين وتمد فلك الزهرة ومن باطنه وتمد فلك المريخ، وليت شعري من أين استمد فقال ما قال وذلك مما لم نجد فيه نقلًا ولا نظن أنه مر بخيال، وقال الشيخ الأكبر: قدس سره إن نور الشمس ما هو من حيث عينها بل هو من تجل دائم لها من اسمه تعالى النور ونور سائر السيارات من نورها وهو في الحقيقة من تجلي اسمه سبحانه النور فما ثم إلا نوره عز وجل. وادعى كثير من أجلة المحققين أن نور جميع الكواكب ثوابتها وسياراتها مستفاد من ضوء الشمس وهو مفاض عليها من الفياض المطلق جل جلاله وعم نواله. وفي الآية رد على القائلين بأن الشمس ساكنة وهي مركز العالم والكواكب والأرض كرات دائرة عليها.


{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}
{والقمر قدرناه} أي صيرنا مسيره أي محله الذي يسير فيه {مَنَازِلَ} فقدر عنى صير الناصب لمفعولين والكلام على حذف مضاف والمضاف المحذوف مفعوله الأول و{مَنَازِلَ} مفعوله الثاني. واختار أبو حيان تقدير مصدر مضاف وقدر متعد إلى واحد و{مَنَازِلَ} منصوب على الظرفية أي قدرنا سيره في مناز وقدر بعضهم نورًا أي قدرنا نوره في منازل فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية لما أن نوره مستفاد من ضوء الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بنيه وبنيها وبهذا يتم الاستدلال، والحق أنه لا قطع بذلك وليس هناك إلا غلبة الظن، ويجوز أن يكون قدر متعديًا لاثنين و{مَنَازِلَ} بتقدير ذا منازل، وأن يكون متعديًا لواحد وهو {مَنَازِلَ} والأصل قدرنا له منازل على الحذف والإيصار واختاره أبو السعود، ونصب {القمر} بفعل يفسره المذكور أي وقدرنا القمر قدرناه وفي ذلك من الاعتناء بأمر التقدير ما فيه، وكأنه لما أن شهرهم باعتباره ويعلم منه سر تغيير الأسلوب.
وقرأ الحرميان. وأبو عمرو. وأبو جعفر. وابن محيصن. والحسن بخلاف عنه {والقمر} بالرفع قال غير واحد، على الابتداء وجملة {قدرناه} خبره، ويجوز فيما أرى أن يجري في التركيب ما جرى في قوله تعالى: {والشمس تَجْرِى} [يس: 38] من الإعراب تدبر، والمنازل جمع منزل والمراد به المسافة التي قطعها القمر في يوم وليلة وهي عند أهل الهند سبعة وعشرون لأن القمر يقطع فلك البروج في سبعة وعشرين يومًا وثلث فحذفوا الثلث لأنه ناقص عن النصف كما هو مصطلح أهل التنجيم، وعند العرب وساكني البدو ثمانية وعشرون لا لأنهم تمموا الثلث واحدًا كما قال بعضهم بل لأنه لما كانت سنوهم باعتبار الأهلة مختلفة الأوائل لوقوعها في وسط الصيف تارة وفي وسط الشتاء أخرى وكذا أوقات تجارتهم وزمان أعيادهم احتاجوا إلى ضبط سنة الشمس لمعرفة فصول السنة حتى يشتغلوا في استقبال كل فصل بما يهمهم في ذلك الفصل من الانتقال إلى المراهي وغيرها فاحتالوا في ضبطها فنظروا أولًا إلى القمر فوجدوه يعود إلى وضع له من الشمس في قريب من ثلاثين يومًا ويختفي آخر الشهر لليلتين أو أقل أو أكثر فاسقطوا يومين من زمان الشهر فبقي ثمانية وعشرون وهو زمان ما بين أول ظهوره بالعشيات مستهلًا أول الشهر وأخر رؤيته بالغدوات مستترًا آخره فقسموا دور الفلك عليه فكان كل قسم اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقة تقريبًا وهو ستة أسباع درجة فنصيب كل برج منه منزلان وثلث ثم لما انضبط الدور بهذه القسمة احتالوا في ضبط سنة الشمس بكيفية قطعها لهذه المنازل فوجدوها تستر دائمًا ثلاثة منازل ما هي فيه بشعاعها وما قبلها بضياء الفجر وما بعدها بضياء الشمس ورصدوا ظهور المستتر بضياء الفجر ثم بشعاعها ثم بضياء الشفق فوجدوا الزمان بين كل ظهوري منزلتين ثلاثة عشر يومًا تقريبًا فأيام جميع المنازل تكون ثلثمائة وأربعة وستين لكن الشمس تقطع جميعها في ثلثمائة وخمس وستين فزادوا يومًا في أيام منزل غفر وزادوه هاهنا اصطلاحًا منهم أو لشرفه على ما تسمعه إن شاء الله تعالى وقد يحتاج إلى زيادة يومين ليكون انقضاء الثمانية والعشرين مع انقضاء السنة ويرجع الأمر إلى النجم الأول، واعلم أن العرب جعلت علامات الأقسام الثمانية والعشرين من الكواكب الظاهرة القريبة من المنطقة مما يقارب طريقة القمر في ممره أو يحاذيه فيرى القمر كل ليلة نازلًا بقرب أحدها وأحوال كواكب المنازل مع المنازل كأحوال كواكب البروج مع البروج عند أهل الهيئة من أنها مسامتة للمنازل وهي في فلك الأفلاك وإذا أسرع القمر في سيره فقد يخلي منزلًا في الوسط وإن أبطأ فقد يبقى ليلتين في منزل أول الليلتين في أوله وآخرهما في آخره وقد يرى في بعض الليالي بين منزلتين، وما يقال في الشهور إن الظاهر من المنازل في كل ليلة يكون أربعة عشر وكذا الخفي وأنه إذا طلع منزل غاب رقيبه وهو الخامس عشر من الطالع سمي به تشبيهًا له برقيب يرصده ليسقط في المغرب إذا ظهر ذلك في المشرق ظاهر الفساد لأنها ليست على نفس المنطقة ولا أبعاد ما بينها متساوية ولهذا قد يكون الظاهر ستة عشر وسبعة عشر وقد يكون الخفي ثلاثة عشر وهذه الكواكب المسماة بالمنازل المسامتة للمنازل الحقيقية على ما روي عن ابن عباس وغيره أولها الشرطان بفتح الشين والراء مثنى شرط بفتحتين وهي العلامة وهما كوكبان نيران من القدر الثالث على قرني الحمل معترضان بين الشمال والجنوب بينهما ثلاثة أشبار وبقرب الجنوبي منهما كوكب صغير سمت العرب الكل أشراطًا لأنها بسقوطها علامات المطر والريح والقمر يحاذيهما وبقرب الشمالي منهما كوكب نير هو الشرطان عند بعض ويقال للشرطين الناطح أيضًا ثم البطين تصغير البطن وهو ثلاثة كواكب خفية من القدر الخامس على شكل مثلث حاد الزوايا على فخذي الحمل بينه وبين الشرطين قيد رمح والقمر يجتاز بها أحيانًا ثم الثريا تصغير ثروى من الثراء وهو الكثرة ويسمى بالنجم وهي على المشهور عند المنجمين ستة كواكب مجتمعة كشكل مروحة مقبضها نحو المشرق وفيه انحناء في جانب الشمال، وقيل هي شبيهة بعنقود عنب وعليه قول أحيحة بن الجلاح أو قيس بن الأسلت:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى *** كعنقود ملاحية حين نورا
والمرصود منها أربعة كلها من القدر الخامس وموضعها سنام الثور، وفي «الكشف» هي الية الحمل ورا يكسفها القمر ثم الدبران بفتحتين سمي به لأنه دبر الثريا وخلفها وهو كوكب أحمر نير من القدر الأول على طرف صورة السبعة من رقوم الهند ويسمى المجدح وموقعه عين الثور والذي على طرفه الآخر من القدر الثالث على عينه الأخرى والثلاثة الباقية وهي من الثالث أيضًا على وجهه وزاوية هذا الرقم على خطم الثور وبعضهم يسمى الدبران بقلب الثور وقد يكسفه القمر ثم الهقعة بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين المهملة وهي ثلاثة كواكب خفية مجتمعة شبيهة بنقط الثاء كأنها لطخة سحابية شبهت بالدائرة التي تكون في عرض زور الفرس أو بحيث تصيب رجل الفارس أو بلمعة بياض تكون في جنب الفرس الأيسر تسمى بذلك وتسمى الأثافي أيضًا وهي على رأس الجبار المسمى بالجوزاء والقمر يحاذيها ولا يقاربها ثم الهنعة بوزن الهقعة وثانيه نون وهي كوكبان من القدر الرابع والثالث شبهت بسمة في منخفض عنق الفرس وهما على رجلي التوأمين مما يلي الشمال وفي الكشف هي منكب الجوزاء الأيسر والقمر يمر بهما ثم الذراع وهما كوكبان أزهران من القدر الثاني على رأسي التوأمين يعنون بهما ذراع الأسد المبسوطة إذ المقبوضة هي الشعرى الشامية مع مرزمها والقمر يقارب المبسوطة ثم النثرة وهي الفرجة بين الشاربين حيال وترة الأنف وهو أنف الأسد وهما كوكبان خفيان من الرابع بينهما قيد ذراع ولطخة سحابية وهي على وسط السرطان ويقربها كوكبان يسميانب الحمارين واللطخة التي بينهما بالمعلف تشبيهًا لها بالتبن ومحظة الأسد أي موضع استتاره ويكسب القمر كلًا منهما ثم الطرف وهما كوكبان صغيران من الرابع أحدهما: على رأس الأسد قدام عينيه والآخر: قدام يده المقدمة والقمر يحاذي أشملهما ويكسف أجنبهما ويعنون بالطرف غين الأسد ثم الجبهة ويعنون بها جبهة الأسد وهي أربعة كواكب على سطر فيه تعويج آخذ من الشمال إلى الجنوب أعظمها على طرف السطر مما يلي الجنوب يسمى قلب الأسد لكونه في موضعه ويسمى الملكي أيضًا وهو من القدر الأول والقمر يمر به وبالذي يليه ثم الزبرة بضم الزاي وسكون الباء وهما كوكبان نيران على أثر الجبهة بينهما أرجح من ذراع وهما على زبرة الأسد أي كاهله عند العرب وعند المنجمين عند مؤخرة فزبرة الأسد شعره الذي يزبر عند الغضب في قفاه أجنبهما من الثالث وأشملهما من الثاني وتسمى ظهر الأسد والقمر يحاذيهما من جهة الجنوب ثم الصرفة وهو كوكب واحد على طرف ذنب الأسد ويسمى ذنب الأسد والقمر يحاذيه من جهة الجنوب وسمي بذلك لأن البرد ينصرف عند سقوطه ثم العواء يمد ويقصر والقصر أجود وهي خمسة كواكب من الثالث على هيئة لام في الخط العربي ثلاثة منها آخذة من منكب العذراء الأيسر إلى تحت ثديها الأيسر وهي على سطر جنوبي من الصرفة ثم ينعطف اثنان على سطر يحيط مع الأول بزاوية منفرجة زعمت العرب أنها كلاب تعوي خلف الأسد ولذلك سميت العواء، وقيل في ذلك كأنها تعوي في أثر البرد ولهذا سميت طاردة البرد، وقيل هي من عوي الشيء عطفه فلما فيها من الانعطاف سميت بذلك.
وفي الكشف العوا سافلة الإنسان ويقال أنها ورك الأسد والقمر يخرقها ثم السماك الأعزل وهو كوكب نير من الأول على كتف العذراء اليسرى قريب من المنطقة والقمر يمر به ويكسفه ويقابل السماك الأعزل السماك الرامح وليس من المنازل وسمي رامحًا لكوكب يقدمه كأنه رمحه وسمي سماكًا لأنه سمك أي ارتفع ثم الغفر وهي ثلاثة كواكب من الرابع على ذيل العذراء ورجلها المؤخرة على سطر معوج كدبته إلى الشمال وقيل كوكبان والقمر يمر بجنوبيهما وقد يحاذي الشمالي وهو منزل خير بعد عن شرين مقدم الأسد ومؤخر العقرب ويقال إنه طالع الأنبياء والصالحين وسميت غفرًا لسترها ونقصان نورها وذكر بعضهم أنها من كواكب الميزان ثم الزبانا بالضم وآخره ألف وهما كوكبان نيران من الثاني متباعدان في الشمال والجنوب بينهما قيد رمح على كفتي الميزان.
وقال غير واحد هما قرنا العقرب والقمر قد يكسف جنوبيهما ثم الإكليل وهي ثلاثة كواكب خفية معترضة من الشمال إلى الجنوب على سطر مقوس يشبه شكلها شكل الغفر الأوسط منها متقدم والاثنان تاليان وهي من الرابع والقمر يمر بجميعها، وقيل هي أربعة كواكب برأس العقرب ولذا سميت به وأصل معناه التاج ثم القلب وهو قلب العقرب كوكب أحمر نير أوسط الثلاثة التي على بدن العقرب على استقامة من المغرب إلى المشرق وهو من الثاني واللذان قبله وبعده ويسميان نياطين من الثالث والقمر يمر به ويكسفه من المنطقة ثم الشولة بفتح الشين المعجمة واللام وتسمى إبرة العقرب عند الحجازيين كوكبان من الثاني أزهران متقاربان على طرف ذنب العقرب في موضع الحمة والقمر يحاذيهما ثم النعائم أربعة كواكب من الثالث على منحرف تابع للشولة وتسمى النعائم الواردة أي إلى المجرة والقمر يمر باثنين منها ويحاذي الباقية ويقرب منها أربعة أخرى من الثالث على منحرف هي النعائم الصادرة أي من المجرة وكلها من صورة الرامي وسميت نعائم تشبيهًا بالخشبات التي تكون على البئر، ثم البلدة وهي قطعة من السماء خالية من الكواكب مستديرة شبهت ببلدة الثعلب وهي ما يكنسه بذنبه وتسمى أيضًا بالمفازة والفرجة، وقيل سميت بذلك تشبيهًا بالفرجة التي تكون بين الحاجبين وموضعها خلف الكواكب التي تسمى بالقلادة وهي عصابة الرامي ثم سعد الذابح كوكبان على قرني الجدي بينهما قدر باع جنوبيهما من الثالث والقمر يقاربه ولا يكسفه ويقرب الشمالي كوكب صغير يكاد يلتصق به يقال إنه شاته التي يريد أن يذبحها، وقيل: إنه في مذبحه ولهذا يسمى بالذابح ثم سعد بلع كوكبان على كف ساكب الماء السرى فوق ظهر الجدي بينهما قدر باع غربيهما من الثالث وشرقيهما من الرابع ويقرب متقدمهما كوكب صغير كأنه ابتلعه فلهذا سمي به، وفي القاموس سعد بلع كزفر معرفة منزل للقمر طلع لما قال الله تعالى: {ياأرض ابلعى مَاءكِ} [هود: 44] وهو نجمان مستويان في المجرى أحدهما خفي والآخر مضىء يسمى بالعًا كأنه بلع الآخر، وقيل: لأنه ليس له ما لسعد الذابح فكأنه بلغ شاته والقمر يقارب أجنبهما ولا يكسفه ثم سعد السعود كوكبان، وقيل: ثلاثة على خط مقوس بين الشمال والجنوب حدبته إلى المغرب أجنبهما والقمر يقرب منه من الخامس على طرف ذنب الجدي وأشملهما من الثالث وهو مع الآخر في القول الآخر من كواكب القوس والقمر يقارب أجنبهما وسمي بذلك لأنه في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيشون وتعيش مواشيهم ثم سعد الأخبية أربعة كواكب من الثالث ومن كواكب الرامي على يد ساكب الماء اليمنى ثلاثة منها على شكل مثلث حاد الزوايا والرابع وسطه وهو السعد والثلاث خباؤه ولذا سمي بذلك، وقيل: لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج من الهوام ما كان مختبئًا والقمر يقاربها من ناحية الجنوب ثم الفرغ المقدم ويقال الأعلى كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح أجنبهما على متن الفرس الأكبر المجنح وأشملهما على منكبه والقمر يمر بالبعد منهما ثم الفرغ المؤخر كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح أيضًا أجنبهما على جناح الفرس وأشملهما مشترك بين سرته ورأس المسلسلة شبهت العرب الأربعة بفرغ الدلو وهو بفتح الفاء وسكون الراء المهملة وغين معجمة مصب الماء منها لكثرة الأمطار في وقتها ثم بطن الحوت ويقال له الرشاء بكسر الراء أي رشاء الدلو وقلب الحوت أيضًا كوكب نير من الثالث على جنب المرأة المسلسلة يحاذيه القمر ولا يقاربه وإنما سمي به لوقوعه في بطن سمكة عظيمة تحت نحر الناقة تصورها العرب من سطرين عليهما كواكب خفية بعضها من المسلسلة وبعضها من إحدى سمكتي الحوت.
هذا واعلم أن هذه المنازل الثمانية والعشرين تسمى العرب الأربعة عشر الشمالية منها التي أولها الشرطان وآخرها السماك شامية والباقية منها التي أولها الغفر وآخرها بطن الحوت يمانية وأنها تسمى خروج المنزل من ضياء الفجر طلوعه وغروب رقيبه وقت الصبح سقوطه والمنازل التي يكون طلوعها في مواسم المطر الأنواء ورقباؤها إذا طلعت في غير مواسم المطر البوارح قاله القطب، وقال الجوهري: النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى مضي ثلاثة عشر يومًا ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يومًا، قال أبو عبيد: ولم يسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع والعرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقال الأصمعي: إلى الطالع في سلطانه فتقول مطرنا بنوء الثريا مثلًا والجمع أنواء ونوآن مثل عبد وعبدان، وذكر الطيبي عن المرزوقي أن نوء الشرطين ثلاثة أيام ونوء البطين ثلاث ليال ونوء الثريا خمس ليال ونوء الدبران ثلاث ليال ونوء الهقعة ست ليال ولا يذكرون نوأها إلا بنوء الجوزاء ونوء الهنعة لا يذكر أيضًا وإنما يكون في أنواء الجوزاء والذراع لا نوء له ونوء النثرة سبع ليال ونوء الطرف ثلاث ليال ونوء الجبهة سبع والزبرة أربع والصرفة ثلاث والعواء ليلة والسماك أربع والغفر ثلاث وقيل ليلة والزبانا ثلاث والإكليل أربع والقلب ثلاث والشولة كذلك والنعائم ليلة والبلدة ثلاث، وقيل: ليلة وسعد الذابح ليلة وبلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم ثلاث والمؤخر أربع ولم يذكر في نسختي للرشاء نوءًا.
ثم إن قول الإنسان مطرنا فنوء كذا إن أراد به أن النوء نزل بالماء فهو كفر والقائل كافر حلال دمه إن لم يتب كما نص عليه الشافعي وغيره، وفي «الروضة» من اعتقد أن النوء يمطر حقيقة كفر وصار مرتدًا وإن أراد به أن النوء سبب ينزل الله تعالى به الماء حسا علم وقدر فهو ليس بكفر بل مباح لكن قال ابن عبد البر: هو وإن كان مباحًا كفر بنعمة الله تعالى وجهل بلطيف حكمته.
وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إثر سماء: «هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال مطرنا بفضل الله تعالى ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب» وظاهره أن الكفر مقابل الإيمان فيحمل على ما إذا أراد القائل ما سمعت أولًا والله تعالى الحافظ من كل سوء لا رب غيره ولا يرجى الأخيرة.
والقمر في العرف العام هو الكوكب المعروف في جميع ليالي الشهر، والمشهور عند اللغويين أنه بعد الاجتماع مع الشمس ومفارقته إياها لا يسمى قمرًا إلا من ثلاث ليال وست وعشرين ليلة وفيما عدا ذلك يسمى هلالًا ولعل الأظهر في الآية حمله على المعنى الأول وهو الشائع إذا ذكر مع الشمس أي قدرنا هذا الجرم المعروف منازل ومسافات مخصوصة فسار فيها ونزلها منزلة منزلة {حتى عَادَ} أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس في رأي العين {كالعرجون} هو عود عزق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته منها وروي ذلك عن الحسن وقتادة، وعن ابن عباس أنه أصل العذق، وقيل الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان العذق والكباسة، والمشهور الأول، ونونه على ما حكى عن الزجاج زائدة فوزنه فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج والانعطاف، وذهب قوم واختاره الراغب.
والسمين. وصاحب القاموس إلى أنها أصلية فوزنه فعلول، وقرأ سليمان التيمي {كالعرجون} بكسر العين وسكون الراء وفتح الجيم وهي لغة فيه كالبزيون والبزيون وهو بساط رومي أو السندس.
{القديم} أي العتيق الذي مر عليه زمان يبس فيه ووجه الشبه الإصفرار والدقة والاعوجاج، وقيل: أقل مدة القدم حول فلو قال رجل كل مملوك لي قديم فهو حر عتق منهم من مضى له حول وأكثر، وقيل: ستة أشهر وحكاه بعض الإمامية عن أبي الحسن الرضا رضي الله تعالى عنه.


{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}
{لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا} أي يتسخر ويتسهل كما في قولك النار ينبغي أن تحرق الثوب أو يحسن ويليق أي حكمة كما في قولك الملك ينبغي أن يكرم العالم، واختار غير واحد المعنى الأول، وأصل {يَنبَغِى} مطاوع بغي عنى طلب وما طاوع وقبل الفعل فقد تسخر وتسهل، والنفي راجع في الحقيقة إلى {يَنبَغِى} فكأنه قيل: لا يتسهل للشمس ولا يتسخر {أَن تدْرِكَ القمر} أي في سلطانه بأن تجتمع معه في الوقت الذي حده الله تعالى له وجعله مظهرًا لسلطانه فإنه عز وجل جعل لتدبير هذا العالم قتضى الحكمة لكل من النيرين الشمس والقمر حدًا محدودًا ووقتًا معينًا يظهر فيه سلطانه فلا يدخل أحدهما في سلطان الآخر بل يتعاقبان إلى أن يأتي أمر الله عز وجل، وهذه الجملة لنفى أن تدرك الشمس القمر فيما جعل له وقوله تعالى: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} لنفى أن يدرك القمر الشمس فيما جعل لها أي ولا آية الليل سابقة آية النهار وظاهر سلطانها في وقت ظهور سلطانها وإلى هذا المعنى يشير كلام قتادة. والضحاك. وعكرمة. وأبي صالح. واختاره الزمخشري ليناسب قوله تعالى: {لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا} ولأن الكلام في الآيتين دل عليه قوله تعالى: {والشمس تَجْرِى} [يس: 38] الآيتان وآخرًا {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وعبر بالإدراك أولًا وبالسبق ثانيًا على ما في الكشاف لمناسبة حال الشمس من بطء السير وحال القمر من سرعته، ولم يقل ولا القمر سابق الشمس ليؤذن على ما قال الطيبي بالتعاقب بين الليل والنهار وبنصوصية التدبير على المعاقبة فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل منهما عليها. وفي الكشف التحقيق أن المقصود بيان معاقبة كل من الشمس والقمر في ترتب الإضاءة وسلطانه على الاستقلال وكذلك اختلاف الليل والنهار فقيل: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} كناية عن سبق آيته آيته فحصل الدلالة على الاختلاف أيضًا إدماجًا لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة، وجاء من ضرورة التقابل هذا المعنى في النهار أيضًا من قوله تعالى: {لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر} ولما ذكر مع الشمس الإدراك المؤذن بأنها طالبة للحاق قيل: {لاَّ يَنبَغِى} رعاية للمناسبة وجىء بالفعل المؤذن بالتجدد ولما نفى السبق في المقابل أكد ذلك بأن جىء بالجملة الاسمية المحضة من دون الابتغاء لأنه مطلوب اللحوق اه.
ولم يذكر السر في إدخال حرف النفي على الشمس دون الفعل المؤذن بصفتها ويوشك أن يكون أخفى من السها وكان ذلك ليستشعر منه في المقام الخطابي أن الشمس إذا خليت وذاتها تكون معدومة كما هو شأن سائر الممكنات وإنما يحصل لها ما يحصل من علته التي هي عبارة عن تعلق قدرته تعالى به على وفق إرادته سبحانه الكاملة التي لا يأبى عنها شيء من أشياء عالم الإمكان ويفيد ذلك في غاية كونها مسخرة في قبضة تصرفه عز وجل لا شيء فوق تلك المسخرية وفيه تأكيد لما يفيده قوله تعالى: {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} [يس: 38] ورد بليغ لمن إليها يسند التأثير.
وجوز أن يكون ذلك لإفادة كونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها من حيث تقديم المسند إليه على الفعل وجعله بعد حرف النفي نحو ما أنا قلت هذا وما زيد سعى في حاجتك يفيد التخصيص أي ما أنا قلت هذا بل غيري وما زيد سعى في حاجتك بل غيره على ما حققه علماء البلاغة والمقصود من نفي تسهل إدراك القمر في سلطانه عن الشمس نفى أن يتسهل لها أن تطمس نوره وتذهب سلطانه ويرجع ذلك إلى نفي قدرتها على الطمس وإذهاب السلطان فيكون المعنى بناء على قاعدة التقديم أن الشمس لا تقدر على ذلك بل غيرها يقدر عليه وهو الله عز وجل وهذا بعد إثبات الجريان لها بتقدير العزيز العليم مشعر بكونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها.
وقال بعض الفضلاء فيما كتبه على هامش تفسير البيضاوي عند قوله: وإلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها وجه الدلالة أن الإيلاء المذكور يفيد التخصيص والابتغاء عنى الصحة والتسهيل المساوقين للاقتدار فيفيد الكلام أن الشمس ليس لها قدرة على إدراك القمر وسرعة المسير التي هي ضد لحركتها الخاصة بل القدرة عليهما لله سبحانه فهو فاعل لحركتها حقيقة ولها مجرد المحلية للحركة فصحت الدلالة المذكورة ثم قال: وتفصيل الكلام أن الله سبحانه ذكر أولًا أن الشمس تجري لمستقر لها إشارة إلى حركتها الخاصة ثم ذكر سبحانه أنه قدر القمر أيضًا في منازل الشمس حتى عاد كالعرجون القديم أي رجع إلى الشكل الهلالي وذلك إنما يكون عند قربه إلى الشمس ورجوعه إليها ولما كان للوهم سبيل إلى أن يتوهم أن جرى الشمس وسيرها وتقدير أنوار القمر وجرمه المرئي مما يستند إلى إرادتهما على سبيل إرادتنا التي تتعلق تارة بالشيء وأخرى بضده فيصح ويتيسر للنيرين الأمران كما يصحان لنا وأن يتوهم أن إسناد أمر الشمس والقمر إلى التقدير الإلهي من قبيل إسناد أفعالنا إليه من حيث أن الأقدار والتمكين منه تعالى وأنه سبحانه المبدأ والمنتهي إلى غير ذلك من الاعتبارات.
نبه جل شأنه بالتخصيص المذكور على دفع على هذا التوهم على سبيل التنبيه على كون الشيء مسخرًا مضطرًا في أمره بسلب اقتداره على ضده وإن لم يذكر جميع أضداده فأشار سبحانه إلى أن الحركة السريعة المفضية إلى إدراك القمر التي هي ضد الحركة الخاصة للشمس لا يصح استنادها إليها والقدرة عليها مختصة بغيرها {وَهُوَ العزيز العليم} حتى يظهر أن وجود الحركة الخاصة لها مستند إلى تقديره تعالى وتدبيره جل شأنه من غير مشاركة للشمس معه سبحانه ثم أردفع ذلك بحكم القمر حيث قال تعالى: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} فإن الأقرب كون المعنى فيه ليس لآية الليل القدرة على أن تسبق آية النهار بحيث تفوتها ولا تكون لها مراجعة إليها ولحوق بها تنبيهًا على أن تقدير القمر في المنازل على الوجه المرصود الذي يعود به إلى الشكل الهلالي الشبيه بالعرجون ويفضي إلى مقاربة الشمس مستند أيضًا إلى تقديره تعالى وتدبيره سبحانه من غير مشاركة للقمر فيه فالجملتان في قوة التأكيد للآيتين السابقتين ولهذا فصلتا اه، وفيه دغدغة لا تخفى على ذكي فتأمل.
وما أشار إليه من أن معنى {لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر} أن الشمس لا قدرة لها على أن تدرك القمر في سيره لبطء حركتها الخاصة وسرعة حركته كذلك قاله غير واحد. وادعى النحاس أنه أظهر ما قيل في معناه وبينه وبين ما تقدم من المعنى قرب ما بل قال بعضهم: الفرق بين الوجهين بالاعتبار، وقال بعض من ذهب إليه في {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} إن المراد أن القمر لا يسبق الشمس بالحركة اليومية وهي ما تكون له وكذا لسائر الكواكب بواسطة فلك الأفلاك فإن هذه الحركة لا يقع بسببها تقدم ولا تأخر وقيل المراد بقوله تعالى: {لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر} إنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه فإنه سبحانه خص كلًا منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس، وعن الحسن أن المراد أنهما لا يجتمعان فيما يشاهد من السماء ليلة الهلال خاصة أي لا تبقى الشمس طالعة إلى أن يطلع القمر ولكن إذا غربت طلع، وقال يحيى: ابن سلام: المراد لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر المغيب قبل طلوعها وكلا القولين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما، وقيل في معنى الجملة الثانية إن الليل لا يسبق النهار ويتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه.
وفي الدر المنثور عن بعض الأجلة أي لا ينبغي إذا كان ليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، وعليك بما تقدم فهو لعمري أقوم، واستدل بالآية أن النهار سابق على الليل في الخلق. روى العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا رضي الله تعالى عنه والمأمون والفضل بن سهل في الإيوان رو فوضعت المائدة فقال الرضا: إن رجلًا من بني إسرائيل سألني بالمدينة: فقال النهار خلق قبل أم الليل فما عندكم؟ فأرادوا الكلام فلم يكن عندهم شيء فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله تعالى قال نعم من القرآن أم من الحساب؟ قال له الفضل: من جهة الحساب فقال رضي الله تعالى عنه: قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشتري في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، ومن القررن قوله تعالى: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} أي الليل قد سبقه النهار اه.
وفي الاستدلال بالآية بحث ظاهر وأما بالحساب فله وجه في الجملة. ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر، والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضي أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه وفهم الإمام من قوله تعالى: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} أن الليل مسبوق لا سابق ومن قوله سبحانه: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا} [الأعراف: 54] أن الليل سابق لأن النهار يطلبه، وأجاب عما يلزم عليه من كون الليل سابقًا مسبوقًا بأن المراد من الليل هنا آيته وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه. وتعقبه أبو حيان بأن فيه جعل الضمير الفاعل في {يَطْلُبُهُ} عائدًا على النهار وضمير المفعول عائدًا على {اليل} والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل لأنه كان قبل دخول همزة النقل {يغشى وَهُوَ الذى} وضمير المفعول عائد على {النهار} لأنه المفعول قبل النقل وبعده وحينئذٍ كلتا الآيتين تفيد أن النهار سابق فلا سؤال انتهى. فتأمل ولا تغفل.
وقرأ عمار بن عقيل {سَابِقُ} بغير تنوين {النهار} بالنصب قال المبرد: سمعته يقرأ فقلت ما هذا؟ قال: أردت سابق النهار بالتنوين فحذفت لأنه أخذ. وفي البحر حذف التنوين لالتقاء الساكنين {وَكُلٌّ} أي كل واحد من الشمس والقمر إذ هما المذكوران صريحًا والتنوين عوض عن المضاف إليه وقدره بعضهم ضمير جمع العقلاء ليوافق ما بعد أي كلهم وقدره آخر اسم إشارة أي كل ذلك أي المذكور الشمس والقمر {فِى فَلَكٍ} هو كما قال الراغب مجرى الكوكب سمي به لاستدارته كفلكة المغزل وهي الخشبة المستديرة في وسطه وفلكة الخيمة وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة.
{يَسْبَحُونَ} أي يسيرون فيه بانبساط وكل من بسط في شيء فهو يسبح فيه، ومنه السباحة في الماء، وهذا المجرى في السماء ولا مانع عندنا أن يجري الكوكب بنفسه في جوف السماء وهي ساكنة لا تدور أصلًا وذلك بأن يكون فيها تجويف مملوء هواء أو جسمًا آخر لطيفًا مثله يجري الكوكب فيه جريان السمكة في الماء أو البندقة في الأنبوب المستدير مثلًا أو تجويف خال من سائر ما يشغله من الأجسام يجري الكوكب فيه أو بأن تكون السماء بأسرها لطيفة أو ما هو مجرى الكوكب منها لطيفًا فيشق الكوكب ما يحاذيه وتجري كما تجري السمكة في البحر أو في ساقية منه وقد انجمد سائره وانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لمقعر فلك القمر عند الفلاسفة وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء لم يتم دليل على شيء منه، وأقوى ما يذكر في ذلك شبهات أوهن من بيت العنكبوت وأنه ورب السماء لأوهن البيوت.
ويجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير ويكون الكوكب فيه يجري بجريانه في ثخن السماء من غير دوران للسماء، ولا مانع من أن يعتبر هذا الفلك لبعض الكواكب الفلك الكلي ويكون فيه نحو ما يثبته أهل الهيئة لضبط الحركات المختلفة من الأفلاك الجزئية لكن لا يضطر إلى ذلك بناءً على القواعد الإسلامية كما لا يخفى إلا أن في نسبة السبح إلى الكوكب نوع أباء بظاهره عن هذا الاحتمال، وفي كلام الأئمة من الصحابة وغيرهم إيماءً إلى بعض ما ذكرنا.
أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية؛ {كُلٌّ فِى فَلَكٍ} فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل. وأخرج الأخيران عن مجاهد أنه قال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل والنجوم في فلكة كفلكة المغزل فلا يدرن إلا بها ولا تدور إلا بهن. وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر قدس سره جعل الله تعالى السموات ساكنة وخلق فيها سبحانه نجومًا وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها عاقلة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها ثم أنه عز وجل لما جعل السباحة للنجوم في هذه السموات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق وهو قوله تعالى: {والسماء ذَاتِ الحبك} [الذاريات: 7] فسميت تلك الطرق أفلاكًا فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات المساوية فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة وجعل سبحانه لها تقدمًا وتأخرًا في أماكن معلومة من السماء تعينها أجرام الكواكب لإضائتها دونها إلى آخر ما قال.
وقال الإمام: إن الله تعالى قادر على أن يجعل الكوكب بحيث يشق السماء فيجعل دائرة متوهمة كما لو جرت سمكة في الماء على الاستدارة وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: {فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والظاهر أن حركة الكوكب على هذا الوجه.
وأرباب الهيئة انكروا ذلك للزوم الخرق والالتئام ان انشق موضع الجري والتأم أو الخلاء ان انشق ولم يلتئم والكل محال عندهم وعندنا لا محالية في ذلك وما يلزم هنا الخرق والالتئام لأنه المفهوم من يسبحون ولا دليل لهم على الاستحالة فيما عدا المحدد وهو هناك شبهة ضعيفة لا دليل، وظاهر الآية أن كل واحد من من النيرين في فلك أي في محرى خاص به وهذا مما يشهد به الحس وذهب إلى نحوه فلاسفة الإسلام كغيرهم من الفلاسفة بيد أنه يقولون باتحاد الفلك والسماء ولما سمعوا عن قبلهم أن كلا من السبع السيارة في فلك وكل الكواكب الثوابت في فلك وفوق كل ذلك فلك يحرك الجميع من المشرق إلى المغرب ويسمى فلك الأفلاك لتحريكه إياها والفلك الأعظم لاحاطته بها والفلك الأطلس لأنه كاسمه غير مكوكب وسمعوا عن الشارع ذكر السموات السبع والكرسي والعرش أرادوا أن يطبقوا بين الأمرين فقالوا: السموات السبع في كلام الشارع هي الأفلاك السبعة في كلام الفلاسفة فلكل من السيارات سماء من السموات والكرسي هو فلك الثوابت والعرش هو الفلك المحرك للجميع المسمى بفلك الأفلاك وقد أخطؤوا في ذلك وخالفوا سلف الأمة فيه فالفلك غير السماء، وقوله تعالى مع ما هنا {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات *طِبَاقًا وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشمس سِرَاجًا} [نوح: 15، 16] لا يدل على الاتحاد لما قلنا من أن الكواكب في الفلك والفلك في السماء فيكون الكوكب فيها بلا شبهة فلا يحوج الجمع إلى القول بالعينية ولم يقم دليل على كرية العرش بل ظاهر ما ورد في الأخبار من أن له قوائم يدل على عدم الكرية، نعم ورد ما يدل بظاهره أنه مقبب وهذا شيء غير ما يزعمونه فيه وكذا الكرسي لم يدل دليل على كريته كما يزعمون ومع هذا ليس عندهم دليل تام على كون الثوابت كلها في فلك فيجوز أن تكون في أفلاك كممثلات كلها فوق زحل أو بعضها فوقه وبعضها بين أفلاك العلوية وهي لا تكسف الثوابت التي عروضها أكثر من عروضها ولا لها اختلاف منظر ليعرف بأحد الوجهين كون الجميع فوق العلوية أو كتداوير ولا يلزم اختلاف أبعاد بعضها من بعض لجواز تساوي أجرام التداوير وحركاتها ولا اختلاف حركاتها بالسرعة والبطء للبعد والقرب وموافقة الممثل ومخالفته لأنا لا نسلم أن حركاتها لا تختلف بذلك المقدار ولا اختلاف أبعادها من الأرض لأنها غير محققة، ويجوز أيضًا أن تكون كلها مركوزة في محدب ممثل زحل على أنه يتحرك الحركة البطيئة والمعدل الحركة السريعة، وأيضًا يجوز أن يكون فيما سموه الفلك الأطلس كواكب لا ترى لصغرها جدًا أو ترى وهي سريعة الحركة ولم يرصد كل كوكب ليتحقق بطء حركة الجميع، وأيضًا يجوز أن تكون السيارات أكثر من سبع فيحتاج إلى أزيد من سبع سموات، ويقرب هذا ظفر أهل الارصاد الجديدة بكوكب سيار غير السبع سموع باسم من ظفر به وأدركه وهو هرشل، وبالجملة لا قاطع فيما قالوه، وللشيخ الأكبر قدس سره في هذا الباب كلام رخر مبناه الكشف وهو أن العرش الذي استوى الرحمن سبحانه عليه سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وهي الماء الجامد وفي جوفه الكرسي وهو على شكله في التربيه لا في القوائم ومقره على الماء الجامد أيضًا وبين مقعر العرش وبينه فضاء واسع وهواء مخترق وفي.
جوق الكرسي خلق الله تعالى الفلك الأطلس جسمًا شفافًا مستديرًا مقسمًا إلى اثنين عشر قسمًا هي البروج المعروفة وفي جوفه الفلك المكوكب وما بينهما الجنات وبعد أن خلق الله تعالى الأرضين واكتسى الهواء صورة الدخان خلق الله سبحانه السموات السبح وجعل في كل منها كوكبًا وهي الجواري، وزعم الخفاجي أن المراد بالفلك في الآية الفلك الأعظم لأن الشمس والقمر وكذا سائر الكواكب تتحرك بحركته فالسباحة عنده عبارة عن الحركة القسرية، وفي القلب من ذلك شيء، ثم على ما هو الظاهر من أن لكل واحد فلكًا يخصه ذهبوا إلى أن فلك الشمس فوق فلك القمر لما أنه يكسفها والمكسوف فوق التكاسف ضرورة، وذكر معظم أهل الهيئة أن الفلك الأدنى فلك القمر وفوقه فلك عطارد وفوقه فلك الزهرة وفوقه فلك الشمس وفوقه فلك المريخ وفوقه فلك المشتري وفوقه فلك زحل واستدلوا على بعض ذلك بالكسف وعلى بعضه الآخر بأن فيه حسن الترتيب وجودة النظام، ولا مانع فيما أرى من القول بذلك لكن لا على الوجه الذي قال به أهل الهيئة من كون السموات هي الأفلاك الدائرة بل على وجه يتأتى معه القول بسكون السموات ودوران الكواكب في أفلاكها ومجاريها بعضها فوق بعض، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فراجعه، وجوز كون ضمير {يَسْبَحُونَ} عائدًا على الكواكب ويشعر بها ذكر الشمس والقمر والليل والنهار، ورجح على الأول بأن الاتيان بضمير الجمع عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف بخلافه على الأول فإنه محوج إلى أن يقال اختلاف أحوال الشمس والقمر في المطالع وغيرها نزل منزلة تعدد أفرادهما فكان المرجح شموسًا وأقمارًا، وظني أنه لا يحتاج إلى ذلك بناء على أنه قد يعتبر الإثنان جمعًا أو بناء على ما قال الإمام من أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظرًا إلى لفظه وأن يجمع نظرًا إلى كونه عنى الجميع وأما التثنية فلا يد عليها اللفظ ولا المعنى قال: فعلى هذا يحسن أن يقال زيد وعمرو كل جاء وكل جاؤوا ولا يحسن كل جاءًا بالتثنية، واستدل بالاتيان بضمير جمع العقلاء على أن الشمس والقمر من ذوي العقول.
وأجيب بأن ذاك لما أن المسند إليهما فعل ذوي العقول كما في قوله تعالى في حق الأصنام {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} [الصافات: 92] وقوله سبحانه: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91] والظواهر غير ما ذكر مع المستدلين. واستدل بالآية بعض فلاسفة الإسلام القائلين باتحاد السماء والفلك على استدارة السماء وجعلوا من اللطائف فيها أن {كُلٌّ فِى فَلَكٍ} لا يستحيل بالانعكاس نحو كلامك كمالك وسر فلا كبابك الفر من وقالوا: لا يعكر على ذلك أنه سبحانه سماها سقفًا في قوله عز قائلًا: {والسقف المرفوع} [الطور: 5] لأن السقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفًا بالتعبيب، وأنت تعلم أن السموات غير الأفلاك ومع هذا أقول باستدارة السموات كما ذهب إليه بعض السلف، وبعض ظواهر الأخبار يقتضي أنها أنصاف كرات كل سماء نصف كرة كالقبة على أرض من الأرضين السبع وإليه ذهب الشيخ الأكبر وقال بالاستدارة لفلك المنازل دون السموات السبع وادعى أن تحت الأرضين السبع التي على كل منها سماء ماء، وتحته هواء، وتحته ظلمة وعليه فليتأمل في كيفية سير الكوكب بعد غروبه حتى يطلع.
ثم إن الفلاسفة الذاهبين إلى استدارة السماء تمسكوا في ذلك بأدلة أقربها على ما قيل دليلان، الأول أنامتي قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت رأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجداناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن، وكذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلًا ثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسًا فكذا سطح السماء الموازي له، والثاني أن أصحاب الأرصاد دونوا في كتبهم مقادير اجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون جرم السماء كربا. ونوقش في هذا بأنه إنما يصح أن لو كان الفلك ساكنًا والكوكب متحركًا إذ لو كان الفلك متحركًا جاز أن يكون مربعًا وتكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الإجرام للكواكب حاصلة، وفي الأول بأنه إنما يصح لو كان الاعتبار المذكور موجودًا في كل خط من خطوط الطول والعرض ولا يخفى جريان كل من المناقشتين في كل من الدليلين، ولهم غير ذلك من الأدلة مذكورة بما لها وعليها في مطولات كتبهم.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16